الأسطوري والدلالي والإشراقي في تجربة الفنان أحمد عبد الكريم

    الأسطوري والدلالي والإشراقي في تجربة الفنان أحمد عبد الكريم

الكتابة عن محترف التشكيلي المصري البارز ( أحمد عبد الكريم ) ليست بالمهمة اليسيرة , ذلك إننا سنقف إزاء تجربة غزيرة التجليات ومتعددة المصادر , تنم عن إلمام واسع بالتاريخ والأنثروبولوجيا وبالمخزون الفني البصري الهائل للحضارة المصرية الفرعونية بوجه خاص وبالتراث الفني الإسلامي في عمومه , مع دراسة متعمقة لتاريخ العلامات والرموز , فضلا عن التمسك بالبحث والتحصيل والاستبصار في كل مستجدات الفنون البصرية , والانفتاح على شتى المحامل التشكيلية الكونية المعاصرة , والطرز التعبيرية السائدة .

إن المقولة التي مفادها بأن ( الفن يكتسب فرادته عندما يتنازل عن منافسة الواقع ) تكاد تكون المدخل الملائم لاستشراف بعض من ملامح تجربة الفنان التي قوامها الانغماس في ماهية الوجود عبر التماس القيم الفنية والفلسفية في جوهر الشكل المادي وفي التمظهرات الخارجية للطبيعة , والتنقل بين الخيارات الميتافيزيقية مع عدم إغفال الغلاف الحسي للأشياء في العالم الخارجي والطبيعي بغرض تفعيل حياة المحسوسات من خلال صور جديدة تغير من بنى الشكل , أو بمعنى آخر الفنان يقوض  البناءات الصنمية للطبيعة وللواقع ( النموذج ) ليحول الوجود العياني إلى مادة ملهمة يؤسس من بعض مفرداتها إنشاءات نسقية تخلع على منتجه طابعا سحريا , وتتجلى فيها قدرة الرسام الخلاقة على موسقة الأشكال وتحويرها وابتكارها , لأنه في هذه العملية يستنهض مرجعياته الذهنية والتخييلية والروحية والعاطفية , في أداءات ذات مستويات رفيعة يرسي عبرها مبادئه الخاصة في النظر إلى الوجود , من هنا فالبناءات لاتتخذ الطبائع الشكلية الصرفة , وإنما تتحصل على قدر كبير من التدخل العاطفي من قبل المصور والقائم على شبك علائق درامية خالصة , فالغرض يمثل الغوص في قلب المشهد وماوراء المنظر الطبيعي .

يصوغ ( أحمد عبدالكريم ) تكويناته متفاديا الجزئيات التي تبدو له فجة أو زائدة عن مقتضيات العمل , ويستبدلها بمفردات يستحضرها من عمليات التخييل ليتكون في المحصلة عالم جديد مبني داخل التصاوير لايشبه سوى (الفن) , وفي هذا العالم تتسع مفاهيم الاستعارات والدلالات لتشمل الفيزيائي والميتافيزيقي , وهذا الأخير هو الجانب المجرد , الذي يتراءى للمتلقين في الصور تلميحا لكنه لايتجسد في كيانات مادية مشاهدة , بل يبقى حالة شفيفة محلقة في اللوحات تثبت بأن خلف الرؤية المادية تتوارى رؤية أخرى أداتها القلب والبصيرة , ومثلما ينقلها الرسام ببصيرته وإرهاصات روحه المنغمرة في جلال الوجود , لايستشعرها المتلقي إلا بهكذا استعداد وفي حالة من التسامي .

على نحو آخر فإن لعبة التبديل والانتقاء والتحوير والترميز , جميعها تخلق السمت الإبداعي لأسلوب الفنان , وكلما أمعن في التلاعب بالأشكال وتجريدها من وظائفها الفعلية , تعالت القيم الفنية وترسخت الجماليات التي يتقصاها , فالمصور في طرحه يعترض على طغيان التداول المادي والنظر إلى الطبيعة من جانب نفعي استهلاكي واستعلائي , وهو ماساهم إلى حد كبير في تغييب دلالاتها الحميمة وبناها الجوهرية , ليس ذلك فحسب بل إن البشر في تماديهم في تكريس الأذى تجاه الطبيعة خلقوا طرائق  لقتل وتعذيب الكائنات تعدى حاجة الكائن البشري للغذاء إلى متعة ممارسة القتل وملاحقة الطرائد وتدمير الحياة , ولذا يرسخ الرسام في منجزه تلك الوحدة الداخلية بين العالم الجامد بشيئيته وعالم الكائنات الحية ومنها الكائن البشري وعوالم الروح , ويرى إن الصورة الأجمل للوجود هي ماتتمثل في الذات الإنسانية  المبدعة والمبتكرة والمنفعلة والمتخيلة والمتمردة , لذلك فالبحث التشكيلي عملية ذاتية تماما , والخارج ليس سوى جزئية يسيرة من العملية , والجمال المنشود الذي يراد للوحات مصدره دواخل الرسام , ذلك يبرر كيف إن ( أحمد عبد الكريم ) عندما يشرع في الرسم يمر بطقوس من تأمل طويل وصمت لاتقطعه بين حين وآخر سوى الموسيقى , ومن ثم يغوص في رؤيته الداخلية التي يفسح فيها مجالا لبعض الموتيفات المستقاه من عالمه الخارجي , إلا إنه يتم موقعتها في ضمن سياقات بصرية تصيرها تصاميم خلاقة لحياة أكثر شاعرية وأكثر حرصا على التجرد من تقاسيم المحيط المحسوس .

في أعماله كثيرا ماتلوح الصلات الخفية العصية على الفهم بين مفردات لايبدو أن بينها علاقات ذات روابط منطقية , على سبيل المثال : يجثم هدهد ضخم على مركب , داخل هذا المركب تنتصب بيوت وتتحرك أسماك وطيور منزلية وجميع الأشكال يغيب عنها التناسب بالقياس إلى الواقع الفعلي , وفي صورة  ثانية تظهر  كائنات نصفها بشري والنصف الأعلى شجرة وتحيطها الطيور والأسماك , ويمكن إيراد عشرات الأمثلة إلا أننا سنعود لاحقا لقراءة بعض الظواهر الفنية في محترفه وعلى الأخص غرائبية المفردات وتصوراته للكائنات , فالفنان قدم أنهاجا بصرية متنوعة التناول وكذا القيم سواء كانت معرفية أو فنية وجمالية , كما أنه يدرج تعدد مرجعياته ومصادره وخبراته وطروحاته الفكرية في لجة التجريب التي لاتحبسه في لغة واحدة , وإنما تتيح لأسلوبه أن يتنامى ويتمايز وينهل من كل حقول الرؤية .

حرى بنا أن لاننسى ذلك الحس الميثولوجي الذي تزخر به نصوصه الكثيرة , ومبعث هذه الخصيصة ربما يكمن في أنه مأخوذ بالسيرة الميثولوجية للكائن والتي تحرر الخيال من مغاليق وقوانين الروايات التاريخية الرتيبة والممنطقة والمحاصرة بقوانين حركة التاريخ , أما العالم الأسطوري فهو الأقرب إلى الفن ولايتنافى مع حقيقيته , ذلك أن كلاهما يستمدان حقائقهما من الفن والخيال دون غيرهما , فضلا عن ذلك يعزز حضور الفضاءات الأسطورية تلك الحمولات الميتافيزيقية المتضمنة في المعالجات التشكيلية في أعماله  , وبالحديث عن المصادر لايمكن إغفال  الفنون الشعبية بشقيها البصري والمحكي , والفنون الإسلامية كمرجعيات ملهمة في العديد من محطات تجربته الكبيرة والممتدة .

 

جذوة الإبداع .. وتنازع الأسطوري والدلالي والإشراقي :

 

في تجاربه كما أسلفنا يتقصى ( أحمد عبد الكريم ) البنى الجمالية في الفن المصري القديم , والروح الميثولوجية وماصاحبها وعلق بها من تصورات فنية تقلب موازين الرؤية وتفعل المخيال التاريخي , وهو ما تكرس في لوحاته حيث استجلب من بين طيات هذين المصدرين صورا تفصح عن ذروة التصورات الإبداعية , وفي ذات الوقت عقد مايشبه المقاربات مع بعض قيم التصوير الشعبي والفطري لكن في المواضع التي أراد لها أن تخرج بهذا الطابع .

في تناوله للطبيعة تبرز خصائص لافتة ومنها سعيه الخلاق إلى أسطرة الطبيعة الخارجية بحيث يمنحها تلك المسحة الأسطورية الغامضة والتي تنأى بها عن اعتيادية المشاهد الطبيعية , فيعيد بناء نسيج الأراضي والبحيرات والأنهار والنباتات , بما يتفق مع تصوراته المبتكرة , وقد تبدو تلك الإنشائية التي يختارها لأعماله خارج المألوف , غير أن الجمالية العالية والحالة المتفردة ماكانا ليحصلا لولا اعتماد هذه التراكيب الجريئة واعتماد التبديل والتحوير والمستويات المتنافذة على بعضها في قاع الصور , مع الحرص على تشفيف السطوح المتداخلة للحفاظ على أثر البقع والعلامات المتخللة بينها والتي تجعل أرضية النصوص وفضاءاتها تفيض بالحركة , وفي الغالب يضيف الرسام إلى السطوح المتعالقة الأخاذة كائنا يتوسط اللوحة وتتذاوب ألوانه مع كل السطح في معالجة لونية مدهشة , وفي أحايين كثيرة تعتمد على مونكروم اللون الواحد ( تنويع المساحات من تدرجات  اللون الواحد ) , ويحدث أن يفقد العمل صلته المباشرة بالعالم الخارجي , إذ ينتقل من مادية الشكل إلى دلالاته , فضلا عن أن الفنان المأخوذ بالميثولوجي تأسره الطبيعة في مستوياتها العجائبية , وهي معادلة لاتتحقق إلا بالتحويل الوظيفي للأشكال والخروج بها عن مساراتها المرئية في الخارج الفعلي , وينعكس هذا المسلك للفنان  في  عروض عدة تضمنت عشرات الأعمال الفنية منها على سبيل المثال لاالحصر : ( الهدهد والمعدية ) و ( قلب الهدهد ) و ( هدهد بنت الجيران ) و ( مراكب الإشراق ) , بينما تنامت خصائص أخرى في (أبجدية دهشور ) و ( تحية إلى الواسطي ) وسنأتي على ذكر المجموعتين الأخيرتين في جزء لاحق من هذا الموضوع  .

في هذه المجموعات التشكيلية المذكورة تنتفي المطابقات والمشابهات مع البيئة المحيطة لأن غاية المصور تمحورت حول إرساء نسقه البصري والرؤيوي , واعتماد البناء الرمزي الإشاري فهو الأقدر على تجاوز الحسي إلى المتخيل , والدمج بين مستويين من عالمين مجازيين أحدهما صورة فنية موازية للطبيعي والأخرى للماوراء الطبيعي , في إشارات لمحية , فالفنان قرر هنا أن يغادر التراكيب ذات الإحالات المنطقية , فحول الجوامد إلى كيانات حية , ووضع الكائنات الحية ضمن ترتيبات بصرية مفاجئة , كأن يرسم الطائر في حجم عملاق أو يختلق الإنسان الشجرة , والجدير بالانتباه تكريسه صورة الكائن النصف إنسان ونصف شجرة في عدة لوحات مما يحيلنا إلى رمزية الأرض الأم في بعض الحضارات الأسيوية حيث كانوا يصورون على الجدارات أو في منحوتات , الإنسان وقد استحال نصفه الأعلى إلى شجرة كبيرة مثمرة , وفي الهند القديمة يرسمون الأرض المحملة بالأشجار على ظهر حوت , أما في الصين فتحملها السلحفاة , وفي دول آسيوية أخرى  يصورون فيلة تحمل الأشجار العملاقة الزخرفية .

إن ظاهرة تعملق الطيور والحيوانات لتتساوى أحجامها بأحجام الشخوص وأحيانا تتجاوزها ليست سوى موسقة للأحجام وفق التخييل الحر الذي يظهر إن المصور يريد تأصيل كفاءة الدوال والرمزية وشئ من الإبهام  والذي يترك أثرا فاعلا تتخلق منه تصورات لامحدودة , وقد كانت ( مراكب الإشراق ) في جزء منها تمثيلا صريحا للتدليل الرمزي والغموض , لكنها أنطوت أيضا على طرح فلسفي صوفي متعدد المعاني , فتلك المراكب المتعينة في أشكال فنية خلابة, بعضها مغطى بالزخرفة ,  تنبعث من نوافذها نورانية تشع من الأحمر والبرتقالي إلى درجة تبدو معها بناء قادم من محكيات الصوفية , وبعضها يتسم بالبساطة لكنها على هيئتها الخشبية عائمة في المياه بالأزرق العميق ومحاطة بتشاكيل شبحية , بينما يطفو البعض الآخر على مياه تتلألأ بأضواء ساحرة وعلى سطحها تعوم نباتات مضيئة , وعلى جنبات مراكبه الزرقاء  الطافية على سطح أزرق أيضا تتراقص الأضواء , وفي المعالجة اللونية تبرز ملكات المصور البارع في توظيف اللون وتكراره بدرجات متفاوتة دون أن ينزلق النص في الرتابة , بل إن هذه الزرقة العميقة والمتمايزة تكرس روحانية المشهد خاصة مع انبعاث الأضواء من النباتات الطافية الشبيهة بزهور الماء , ومن النوافذ العقدية المستطيلة المتراصة على واجهات المراكب والتي يحيطها في الخلفية  النخل الكثيف بالأخضر القاتم , فيتضاعف جمال وروحانية الصور .

( مراكب الإشراق ) هي استعارة صوفية لرحلة الكائن المشغوف قلبه بالاكتشاف وإن لازمت رحلته المكابدة خطوة بخطوة إلى أن يصل إلى المحبة في كمالها , أو المحبة لذاتها والتي تجعل من كل محبات الكون مجرد نقطة في بحر العشق الإلهي .

وفي تناول أشمل فإن ( مراكب الإشراق ) يمكن أن تقرأ كطقس فني مجازي لاكتشاف الذات ومن ثم الوجود فكل فعل إبداعي في الحضارات القديمة وعلى الأخص في الشرقية كان يتضمن طقسا ,  فالحكيم الصيني ( كونفوشيوس ) يرى (بأن أهمية الطقوس جاء من كونها تسمح بجمع الإرادات وتوجيه الأفعال , وتنسيق النفوس للوصول إلى توازن عام للقوى )  أليست الرحلة بهذا المفهوم طقس يمثل فيه المركب الرباط النفسي والجسدي بين الإنسان وسائر الكائنات , وبين الإنسان وأشيائه المادية , وأخيرا بين الإنسان والوجود ؟

على ذات الصعيد فإنه معلوم في فلسفات الفنون بأن الشكل الفيزيائي في حضوره الفني قادر على ترك أثر روحي .. وعلاقة الكائن (الحي ) بالمركب ( المادي ) صارت متجذرة , فالمركب هو وسيلة العبور المادي والروحي والنفسي , وهذه الرحلات المسارية في اللوحات هي رحلات وجودية , بل إنها حامل متسع للأغراض المتعددة , فهي قد تصبح :

  • رحلة الإنسان في الحياة .
  • رحلة اكتشاف الأرض الفسيحة .
  • رحلة البحث في المطلق ( الله ) وتجلياته في الكون .
  • رحلة البحث في المعنى , في المحبة بجميع مراتبها التي طرحتها الفلسفات الصوفية وغايتها الوصول إلى الدرجة الأسمى من الحب ممثلا في الحب الإلهي .
  • رحلة اكتشاف الذات وطرح الآمال والمخاوف والأحلام للإمساك بأسرار الكون , وتحقيق معرفة جوهرية تعتمد على الإشراق والانكشاف .

ومع كل محاولات حصر الدلالات فإن (مراكب الإشراق) لاتفتأ  ترسل بإشارات في اتجاهات أخرى ولاتكف عن التناسل وتوسيع المعنى , فهي بشكل ما تستحضر ( مراكب الشمس ) من التاريخ الفرعوني وتلك الهالة والإبهار التي تتكلل بها , وفي سياق ثان تعيد إلى الذاكرة الإنسان (السندباد) المهجوس بارتياد الأرض والمتشبع بغريزة الفضول المعرفي حتى وإن استلزمت المعرفة خسارة سنوات العمر ومصاحبة الأخطار .

خلاصة القول إن مراكب الفنان تنزاح عن المسارات الممكنة لتسافر في اللاممكن , لذلك فالعنوان الواسم التجربة مجتمعا مع النسق البصري المتعين في الصور لم يكن محض صدفة , فالمصور ابتغى سفرا أبعد من السفر الزمكاني , يتجاوز به الحيز الجغرافي إلى المعارج  الماورائية , ليشرق على أسرار الكون ويرى الذات والآخر في أفق لاتحده الأبعاد المادية ولايكترث بالمعاينة الخارجية , وهو بذلك يضع متلقيه إزاء معان متعددة تتخذ مسارات كلية , فالرحلة الإشراقية على تلك المراكب تتقلب بين العرفاني القلبي في الترحل الصوفي وبين الاكتشاف والانكشاف , وتصعد وتهبط بين طبقات الوجود وانتقالات الروح , ومن اللافت في البناءات البصرية داخل اللوحات ذلك التساوق بين المعنى المتعدد والمبنى المبهم , إذ أن تجاوزية الصور لسلطة واحدية الدلالة وواحدية التأويل تسمو بالنصوص إلى مستويات التخييل واستبطان الإشارات , فتصير قراءة  اللوحات حالة أشبه ماتكون بالاندماج الروحي والصوفي , وفي الوقت ذاته يستبقي العمل مفتوحا على كافة التأويلات , فالأعمال في سياقاتها المطروحة لاتنغلق على تفسير واضح أو مكتمل .

لقد بلغ من حرص التشكيلي ( أحمد عبد الكريم ) على تجديد أداءاته  أنه في كل مرة يوظف فيها المفردات المستلهمة من البيئة الخارجية يعيد موضعتها بأسلوب ينتقل به نحو أداء تقني جديد وتراكيب مغايرة , ومن ذلك تكييفه التشكيلي لصورة الأشجار التي تأخذ نمذجات  تختلف من عرض إلى آخر, فضلا عن أنها تعكس شغف الرسام بتصوير أدق التفاصيل لهذه المفردة , إلا أن المشترك في رسم الأشجار والنباتات في غالبية صياغاته يكمن في الهالة السحرية التي ينشرها في محيطها والنظر إليها بالكثير من الامتنان والتبجيل , وهذا قد يفسر ارتباط الفنان وجدانيا بالطبيعة حتى أنه اختار لمرسمه موقعا جغرافيا يمتاز بكثافة الغطاء النباتي ووفرة الأشجار والنخيل بالإضافة إلى تاريخ عريق وهي, منطقة ( دهشور )  , وإن المعاينة العميقة  للسياقات التي يصور فيها تنويعاته للأشجار تكشف عن تقصد المصور تكريس صورة الشجر مرتبطة بالإنسان بشكل عضوي أو ملازم لكل كينونته وصيرورة حياته .

في أعمال الفنان يتوفر الكثير من التماثل والعلائق الوثيقة بين قيمة الشجرة بالنسبة له ومفاهيم الشجرة المقدسة في قديم الحضارات , فكما هو معلوم إن الإنسان قدس الشجرة منذ البدايات الأولى للخليقة , وأعتبرها هبة إلهية ثمينة  , وذكرت جميع النصوص الدينية على اختلافها النباتات في عبارات محببة , على نحو آخر عززت الأساطير من التصورات حول الشجرة الكونية التي تربط السماء بالأرض ورمزت عناصرها من جذوع وجذور وأوراق إلى السماوي والهوائي والعاصفي , فاتخذت فارس من شجرة الحياة المحصنة بطاؤوسين رمز لديمومة الحياة والشباب , وتحولت الأشجار في فنون التصوير الإسلامية إلى تعبير عن التنظيم الكوني المحكم هذه ليست غير أمثلة محدودة تسمح بالقول بأن المصور يتخذ منها مفردة مؤثرة ورامزة ويعزز من حضورها, بناء على مؤثرات داخلية يصاحبها إلمام معرفي بالدلالات والرموز الأكثر ثراء للنباتات بأنواعها في التاريخ البشري,  ففي التصاوير التي يجسد فيها النخيل مثلا , وهي كما أشرنا إحدى ملامح ( دهشور ) حيث يقع مرسمه , يتناول النخلة في عمله كما لو كانت صورة شخصية لكائن حي يحظى بمكانة جليلة , فهو لاينظر إليها كثيمة فنية تصلح موضوعا للوحة , بل يقدمها في هيئة مهيبة , يفسح لها كامل مساحة السطح ويستعرض في إيقاعية مدهشة تضاريسها والعلامات التي تميزها , لتظهر مثل كائن خرافي عملاق , إلى حد أنها تأوي الكائنات في جذوعها وعلى قممها .. تماما مثلما تحتوي الأرض حياة كائناتها , وفي التكوينات تظهر تلك العاطفة الكبيرة التي يكنها الرسام للنخيل , تؤكدها إسقاطاته الترميزية العديدة , إذ يرى فيها دلالة على  تجذر الحياة وصلابتها , وعطاءها ومقاومتها الفناء ومواجهتها المتغيرات التي تعصف بالحياة إلا أنها تحافظ على ثباتها .

إن النخلة لاتترسخ في نصوصه بمعزل عن دلالاتها الميثولوجية والشعبية إلى جانب مكانتها الأثيرة في وجدانه , لذلك ليس من المستغرب أن يلم بمواسمها وحياتها وأصنافها وأعمارها والحكايا الشعبية التي تدور حولها والأفكار المترسخة لدى الريفيين عن دورها في إعادة الخصوبة للعاقرات وإعتبارها مصدر للبركة , حتى إن الفنان يصف كيف أن الفهم الشعبي يتعامل مع النخل على أنها قد تأنسنت واكتسبت بعض الأحاسيس البشرية , فهي كما يعتقدون ومن خلال مروياتهم تسمع وتقلق وتتأثر وتخاف وتبتهج , وهي بطبيعة الحال تصورات عززت من حضور النخيل عند الرسام وجدانيا وفنيا .

على الصعيد ذاته يواصل الفنان استبصار المضمرات في الشكل الخارجي للأشياء في تصاعد مطرد , ويبني نصوصه وفق اعتبارات فنية صرفة , لامسوغ لها سوى إرساء رؤية إبداعية ووثوقية جمالية للأشياء خارج سياقاتها , ومبعثها تدخلات المصور الذي يجترح طرائقه الخاصة في إنتاج مزج تآلفي بين الناس والأشجار والطيور والأسماك وسائر الكائنات , ضمن منظور شديد الخصوصية وافتراضات لاتبررها إلا اشتراطات العملية الإبداعية .. هي في حقيقتها رؤية التشكيلي الراسخ في الفن الذي يحرر الشكل من المنظور العياني , ومع ذلك ينجز صورا قوامها تواشج العلامات والترابط والتنامي العضوي , وهو مايتراءى في مجموعتيه ( قلب الهدهد ) و ( هدهد بنت الجيران ) وفيهما يمنح الرسام لطائر الهدهد حضورا بارزا , وهو العلامة المحورية في جل الأعمال المندرجة ضمن هاتين المجموعتين , لكنه مع ذلك لاينفرد بالمشاهد , فهو إذ يتقدم في سطح العمل إلا أنه يظل في حالة اشتباك مع بقية الأشكال , وتلك خصيصة هامة في اللوحات , فجميع التفاصيل في كل لوحة تندمج في جسد مفصلي متماسك , هذا على الرغم من مفارقة  تعملق الهدهد وبعض الشخوص في مقابل تضاؤل بقية الكائنات , ومرد ذلك إن الغاية لاتكمن في التوازن الوظيفي المنطقي , وإنما في التوازن الفني – الدلالي , ومرجعه ( فكر العين المبدعة ) .

في هذه المتوالية من الصور , يبدو السؤال مشروعا : لماذا الهدهد على وجه التحديد ؟ وماهي الكفاءة التعبيرية والقيمية  التى له  لينفرد بمعرضين كاملين للفنان ؟

هل مرد ذلك شغف الإنسان القديم – الجديد  بعالم الطير  ومحاولاته اختراق ذاك العالم ؟

أم أنه ولع البشر بفكرة التحليق , والشعور بالعجز أمام الكائنات المجنحة ؟

ليس ثمة شك بأن ماذكر يمثل بعض مبررات الشغف بعوالم الطير , بالإضافة إلى أن الطائر يتضمن دلالة رمزية لحالة التسامي والانفلات من قيود الأرضي , غير أن الهدهد بوجه خاص أمتلك مكانة كبيرة في القص الشعبي وفي الفكر الديني , وهو ملك البشارات , ويحظى بمكانة رفيعة لدى الصوفية , وإن المصور المأخوذ بطائر الهدهد لابد يحتفظ باقتراحات أخرى غير أن المهم أنه أنتج نصوصه بقدرة عالية على استدراج الفضول تجاه الشكل والمضمون معا .

جدير بالملاحظة حضور ( المياه ) بطريقة ملحوظة في أعمال الفنان , وفي أحيان كثيرة يربط صورة الماء سواء كانت بحيرة صغيرة أو نهر ممتد , بالمساءات المنارة بضوء القمر , وهي عناصر تكثف الحس الأسطوري والنزوع الوجودي في لوحاته , فكل حياة جديدة في الحكايا الأسطورية نمت بجانب المياه , كما كان القمر شريكا للماء , يرمزان للتجدد وإلى تبدلات الحياة والزمن .

على مستوى الشكل يتعمد المصور إحداث تنافذ بين السطوح والتفاصيل الموضوعة فوق بعضها دون أن تفقد تمايزها , وكثيرا مايضيف مربعا أو مستطيلا من الزخارف المشتبكة التي تصير سطحا يتخلل اللوحة ويكرس نظامها الرمزي , وبرغم واحدية المنظور وتسطيح الأشكال , إلا إن الإحساس بالعمق حاصل في اللوحات وناتج عن التوظيف الحاذق للألوان العميقة  , فاللون يحقق درجات قصوى من الفاعلية , والفنان يغدقه على كامل السطح لأنه يعول كثيرا على حساسية اللون إلى درجة أنه ينجح في أن يكثف الرمزية الكونية في منظومته البصرية بواسطته ممزوجا مع بقية المفردات , وهو يدخره للخطوة الأخيرة لكنها الأشد تأثيرا على النفس , ولذا يركز على توزيع الإيقاعات اللونية وعلى تجاور المساحات وانصهارها ويشفف ألوان الفضاءات ويحرص على تداخل غلالات اللون في بعض المواقع دون أن تحجب أدق الخطوط , وفي بناءاته الكونية يستعيد ذات الدلالات القديمة للألوان في الحضارات الماضية,  فالدرجة الباهية من الأزرق  رمزت للحقيقة عند قدماء الفنانين المصريين ,  والأزرق الغامق عبر عن النقاء فوق الدنيوي , والبرتقالي بدرجاته أعتبر دال على العقل والاعتدال , أما البنفسجي فدلل على رصانة الحزن , وبصورة عامة  فإن فيزيائية الألوان عكست توق الفنان إلى وداعة الحياة , كما أنبجست في تلاوين السطوح المتماوجة الحياة الداخلية للجوامد , ونبض الأرض , وموسيقى الوجود الناجمة عن حركة النبات ورفرفة الطيور واحتشادها واهتزازات الضوء , وتموجات المياه , إنها سيمفونيه مدهشة تتخلق على قماش اللوحات , تعيد للوجود حيويته , وتذكر الناس بجمالات ومشاعر مفقودة , فلقد أراد الفنان الناظم أن يستدرج المتلقين إلى افتراضات فنية محضة , غير أنها خلاقة ولها طبائع الحقيقة , عسى أن يستعيد إنسان اليوم قدرة الإصغاء للجمال وإعادة تأهيل الروح للشعور بالمستويات الأكثر نقاء وصفاء في عالم الطبيعة الخارجي .

إن النوستالجيا التي لاتغادر ( أحمد عبد الكريم ) إزاء الخواص الفنية والجمالية في فنون العصور الماضية  والتي جعلته يستأنس ببعض القيم التشكيلية في صياغاته , ويقلص من الفجوة القائمة بين محترفه ( المعاصر ) وبين التقاليد الفنية في تراث أسلافه هي ماحدا  به لأن يخوض تجربة إبداعية عنونها ب(تحية إلى الواسطي ) حيث أنجز معرضا كاملا من الصور يعتمد الترتيبات البصرية في أسلوب الفنان العربي (يحي الواسطي ) الذي عاش في زمن العباسيين (في القرن الثالث عشر ) واشتهر بأسلوبه الخاص في منمنماته وإرسائه قيما فنية ذات جمالية مستقاة من البيئة العربية , في حقبة اتسمت بحضور طاغ لأساليب التصوير القادمة من ثقافات فارس والهند ووسط آسيا .

في تحيته إلى الواسطي  قدم الفنان مقاربة فنية وحوار خلاق كما يمكن أن نعتبرها بالمعنى المجازي عملية تناص مقصود , مستعيدا بعض موضوعات الواسطي التي دمجها  بإضافاته مازجا بين الطبيعة البنائية للتصوير والمنظور الواسطي , وبين أدائه ولغته ومفرداته , حتى أنه صاغ صورا موضوعاتها من ابتكاره كلية دون إخلال بالسياق الواحد للأعمال على تعددها , وضبط حركة الاندماجات الممكنة بين الأسلوبين حد التماهي والتناغم , والانضواء في نسق فني يلم مفردات شديدة التآلف , متفاديا مزالق النقل الميكانيكي أو المبالغة في الإجراءات الحذرة التي من شأنها تعويق الاندماج المنتج والمبدع .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أبجدية دهشور .. سيرة ترميزية للعالم :

على نحو مدهش وجرئ أنجز ( أحمد عبد الكريم ) إحدى أهم تجاربه التشكيلية (أبجدية دهشور ) ذلك أنها تتضمن انقلاب جذري فيما يتعلق بالشكل وبالحلول البصرية , إضافة إلى أهمية المحتوى الذي تتمثله الدلالات , وإلى كونها تمثيل جامع لكل خبراته الماضية وإرهاصات للتجارب التي لحقتها فيما بعد خلال هذه السنوات الأخيرة .

في ( أبجدية دهشور ) باطن شعري وحكائي , وظاهر تشكيلي , فهي تجربة تتحرك في عدة اتجاهات , وتقوم على الشغف والفعل والمعرفة , وقوامها تفكيك الأشياء من روابطها وانشباكاتها  , وحلها من أي تموضعات ذهنية أو بصرية قبلية , ورصها في مصفوفة مسترسلة .

ومن الجلي إن الفنان على وعي عال بطروحات  السيميوطيقا , وسيميالوجيا الصور والعلامات , وقد أشار إلى ذلك في عبارات مقتضبة كتبها في تقدمة بالغة الإيجاز في أحد كتيبات معرض شخصي , لكن الناقد والتشكيلي المعروف ( ياسر منجي ) قد أغنى هذا الملمح باستفاضة في تقدمته لمعرض  ( أحمد عبد الكريم )  الهدهد والمعدية , فقد سطر دراسة نقدية عميقة تبنت التفسير السيميولوجي في تناول ممتع , نعتبره مدخلا ضروريا لفك مغاليق الأعمال , ليست تلك الخاصة بالعرض المذكور فحسب , ولكنها بحث سيميائي ينطبق على معالجات وتجارب للفنان في العروض التي تلته .

( أبجدية دهشور ) هي إنشاء فني مبتكر يستحدث تأويلات  وعلائق جديدة فعملية رصف الأشكال داخل اللوحات منزوعة من علاقاتها السابقة ومن محيطها , يقصي عنها ديمومتها المتعلقة بحضورها في العالم الحسي , والغاية هنا جوهرية تكمن في تأسيس صلات مستحدثة بين عناصر وعلامات لايجمعها سوى تواجدها على ذات الحيز , وهو مايسميه الناقد محمد بن حمودة : فك الارتباط بين الموضوع والجسامة .

لقد استعار الفنان روح الكاتب المصري القديم الذي كان يسجل الوجود أو الفلسفة أو التاريخ في مدونة , لكن في هذه المدونة التشكيلية  تتزاحم   الحروف الهيروغليفية والعربية والوشوم والكائنات وكم غزير من الإشارات المتناثرة , وقد وفق إلى حد مبهر في إنشاء نظام فني لافت من العلامات بدا من خلاله وكأن الفنان استغرق في تعقب انثروبولوجي  وسيميائي  وتقني إضافة إلى مصادره ومرجعياته التي لامكان فيها للوجودية العيانية إلا من باب الترميز .

من جهة أخرى قد يبدو للوهلة الأولى إن البناءات في حالة من التشظي , وأنها تصعب القراءة البصرية الشاملة ولكن نظرة أعمق كفيلة بالتقاط علاقات خفية تلملم التفاصيل المتحركة في كل اتجاه , ذلك لأن إنشائية التكوينات وعملية توزيع العلامات تحتكم إلى وشائج ترابطية داخلية ذات علاقة برمزية العلامات , فالرمزية عنصر أصيل في هذه المصفوفات , لكنها تتذاوب في نسيج النص , ومن الممكن امتلاك كل علامة عدة تأويلات ( مدلولات ) لكنها ستبقى مفككة إن لم تقرأ في علاقتها مع كل الأشكال المحيطة بها , إذا فكل علامة فاعلة منفردة  , وأكثر فعالية وإنتاجا للدلالات مجتمعة , على عكس سلبية الظاهر المادي وواحدية وظائفه ومعانيه , وفي هذه المصفوفات التشكيلية يمكن استبطان  كثافة الجواهر المستقرة الكامنة داخلها , ولأن اللوحة في المفهوم الفلسفي ذاكرة منظمة ,  فإن الرسوم المتغايرة تثير طيلة مكوثها في اللوحات ارتباطات رمزية , وتكرس في الذاكرة الدلالات والإشارات الأكثر تداولا إلى جانب التأويلات الأبعد , فالإيماءات والإيحاءات المؤثرة والمتباينة في الوقت ذاته تؤكد انعدام اليقين الراسخ بالبعد الواحد للأشياء , سواء في علاقتها بالوجود , أو في ارتباطاتنا بها , بل وفي موقعها وأهميتها التي تختلف لدى كل فرد , أو حتى في الاتفاق على أسباب وجودها .

وفي التوظيف الإبداعي يزداد الأمر تعقيدا حيث تتشاكل الأساليب الفنية في رؤاها وفي طرائق تصويرها , بين تخطيطات تلقائية وأخرى خاضعة لتصورات المخيلة وشطحاتها , فتكتسب مظهرا سورياليا خاضع لمزاج المصور وإسقاطاته اللاواعية , وثالث يخلصها من جميع معطيات مظهرها الواقعي – الحسي – ويحيلها إلى علامات تنفرد بأقل القليل من الإشارات المادية لتمنحها بالكاد إمكانية الإحالة إلى مشابهة للأشياء في عالمها المادي , وهذا الأخير تحديدا هو المنحى الذي اتخذه المصور في تجربته , ويتمثل ذلك في الخطوط العريضة التي يخط بها الأسماك والطيور وبقية الكائنات التي تتبدى كمخططات هيكلية موحية , ومدمجة في زخم من علامات ذات مرجعيات ومصادر كثيرة منها كما أسلفنا حروف الكتابة والموتيفات الفرعونية والشعبية مع علامات أخرى مبثوثة في ثنايا الشكل لاتندرج ضمن أية مصادر , وفي الغالب مبعثها خيال الفنان , فإلى جانب عنايته بتحوير صورة الموجودات الواقعية لكي يصيرها عنصرا مندغما بنسيج العمل , رفد السطوح باللامحدود من التشكيلات الخطية والزخرفية والنقطية , التي ساهمت في خلع شبكة فنية بصرية متماسكة على السطوح تبعا للمنظور المرسوم في ذهنه , هذا المنظور لايخلو من تأثير المنهجين التحليلي والتفكيكي , وإن كان بطريقة غير مباشرة .

ولعله من المفيد القول بأن الفنان ( أحمد عبد الكريم ) في خضم اشتغالاته وانغماره في استبار البنى العميقة للأشكال وللعلامات  لم ينحاز لاتجاه رائج , إنما اختط لنفسه هذا الأداء التشكيلي المتفلت من التكلف , وفي ( أبجدية دهشور ) ثمة سمات تفيد بأن المصور لايرسم المشاهد من على مسافة , بل هو في داخلها , ويحاول تحفيز المتلقي للولوج إلى هذا الأبنية الرمزية تماما مثلما يلج الصوفي في قلب المعرفة , أو كما ترفرف الروح في لحظات التجلي فوق ربقة الحياة المادية , وهذا تحديدا يجوز تناول التجربة باعتبارها صيغة فنية منقحة لقراءة أنطولوجية للوجود , وتبريرا جماليا عوض الحياة , فالخطاب التشكيلي أسقط معظم قيم المشابهة , وكل المسالك المؤدية إلى مقاربات مباشرة , فإنشائية الصور تقطع كل صلة بقوانين المعاينة المنطقية .

إن النمو الاستعاري المطرد للأشكال , والطاقات الدلالية المتوالية وتشظي التفاصيل في فضاءات رحبة , ينم عن جموح إبداعي نجمت عنه نصوص على قدر كبير من التناغم والإيقاعية , وتمخضت في النتيجة عن هارموني تتسق فيه سائر التفاصيل أيا كان موقعها , ولذلك نضحت التكوينات بتوتر حيوي وجزالة في سرد المصفوفات الصورية , فضلا عن تعدد مستويات الوظائف الإشارية كما أسلفنا سابقا , فهذا التنظيم البدئي يتحول تصاعديا إلى تداخلات محتدمة  وإيقاع غني , والتراكيب تصير شبيهة بهندسة حدسية أنتجت بنى فنية دالة , وأبجدية تشكيلية تبني مجازات فكرية ووجدانية , وتتخلى بجسارة عن الجسامة , ومع غياب التماثل والتشبيه لاتفقد التجربة التحامها بالحقيقة , ذلك أن هذه الأخيرة مستقلة , لاترتكن على الواقع الخبري , فالرموز والعلامات تتدفق وتتواتر داخل شبكة من المنظومات البصرية التي تستحيل إلى وقائع جمالية , وبتعبير مجازي يمكن النظر إلى التجربة على أنها سجل بصري يعيد تنظيم فوضى الشتات المرئي للخارج في نسق رمزي – إبداعي , قوامه جمالية التنوع والكثرة , فكما أشرنا إن من غايات هذا العرض تفكيك الأشياء من ارتباطاتها وانشباكاتها وحلها من أي تموضعات ذهنية أو بصرية سابقة , ورصها في ترتيبات مسترسلة , غير أنه من الصعوبة حصر مساعي المصور في هدم التنميط وانجاز علائق شكلية مبتكرة فحسب , فإلى جانب التأويلات والاحتمالات التي تم سوقها , لابد من الالتفات إلى تبريرات أخرى لهذه المعالجة المبدعة وفي مقدمتها إعادة النظر إلى مسارات الحياة عبر قراءة تاريخها الرمزي والدلالي , ووضع المصفوفة الجمالية المرمزة مجاورة للسياقات التاريخية , والتعبير عن التاريخ البشري بالرؤية الفنية .

إن الخلائط التي جمعها الفنان من الأشكال والخطوط والوشوم  والرموز القديمة تعد ضربا من الهجانة الجذابة ,  بين تفاصيل كان ممكن إذا اجتمعت أن يشوبها التنافر أو التمايز الذي قد يؤثر على وحدة النص , وهو مالم يحدث , فالتشكيلات التي تبدو عفوية التنظيم  , مموقعة في بناءات وإنشاءات مضمرة يسودها التوازن وحساسية عالية بالتنظيم الهيكلي للصور .

وقد أقصى المصور عن الأعمال قاعدة النقطة المحورية التي يتفرع الشكل عنها , وتمسك بزمام التكوين , ومنها تنطلق العين إلى عموم الصورة , وأرسى بدلا عن هذا المبدأ استراتيجية للدخول إلى النصوص ينتفي منها المركز المحوري , ولذا تقتضي عملية التلقي انفتاح العين على كامل المشهد , فكل تفصيل هو مركز ومفتتح لولوج النص , والصور قابلة للفرجة من جميع اتجاهاتها , دون أن يؤثر ذلك على إيقاعيتها وأثرها وفاعليتها .

وبذات الروح المجددة يتمرد الفنان على تأطير الأعمال , ربما لأن الإطار الذي يحصر الرسوم في مساحات مغلقة ومسيجة , يتنافى مع قصدية الخطاب البصري المفتوح الذي أنجزه  بكفاءة جلية , ووفق رؤية ومبادئ لاتتسق مع الإخراجات التشكيلية الأخرى التي يتناسب معها التأطير , لذلك ولكي يفلت من صرامة الحدود والإطارات يلجأ إلى التمرد على القياسات النمطية , ويخرج بمساحات متفاوتة لاتقوم على التماثل الهندسي , فبعض اللوحات تمتد بشكل أفقي متماوجة أو غير مستوية الامتدادات , والبعض منها دائرية , ولوحات أخرى لامتعينة الشكل , يصعب وضعها ضمن معيار هندسي مألوف , على هذا النحو تستعصي اللوحات على التأطير , وهو ماحقق لها انفتاحا أكبر على فضاءات قاعات العرض , كما تتعاظم كفاءتها في خلق حالة فنية ووجدانية  تندمج فيها  جميع اللوحات في كل  واحد.

ويلزم القول بأن جمالية الكثرة وتلقائية الأداء مع جمالية الانفكاك الحر للعلامات وتطويع كل صور الكائنات لأن تتحول إلى خطوط وتهويمات فتصبح جزء من نسيج متين , كل هذه السمات مجتمعة قدمت على نحو مبهر تجربة تشكيلية فارقة تضاف إلى رصيد الفنان الملئ  بالتجارب اللافتة .

إن ( أحمد عبد الكريم ) بما لمحترفه ومحمله التشكيلي من نشاط  وتأثير وإبداعية  قد أمتلك حضورا فاعلا في الحركة التشكيلية مصريا وعربيا , وليس ثمة شك بأن تخييل الفنان وقدراته وتنوع أداءاته مع الثراء المعرفي , عوامل تشكل الرافعة التي تدفع بمحترفة للتفردد والتجدد .

 

 

 

 

 

 

 

+ مقالات

أستاذة علم الجمال بجامعة صنعاء

اترك لنا تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني